دموع سيدة جميلة
لصلاح ابوشنب
دخلت الى القاعة المظلمة يسبقها عطرُها الفواح ، خطواتها وحذاءها الذهبى يقرعان معزوفة منتظمة الايقاع فوق الأرضية الباركيه اللامعه، كانت تسيرثابتة الخطى ممشوقة القوام كغصن الأراك ، بيضاء البشرة متوردة الخدين كستنائية الشعر، كان الجميع يتطلع اليها وكأنها هى ضيفة الشرف.
فى كل مرة من المرات القليلة جدا التى كان يراها فيها يسأل نفسه ترُى من تكون ؟
تلقاها المحاضر بترحاب وصافحها باحترام شديد بعد أن طبع قبلة فوق يدها، اجابته بإيماءة رشيقة وابتسامه مقتضبة.
أسرع أمامها وهو يفسح لها الطريق لتجلس فى مقاعد الصف الأول المخصصة لكبار الضيوف .
بدأت ماكينة العرض السينيمائى تعرض صورا للفيلم التسجيلى التاريخى مشهدا وراء آخر.
صور القصور والحدائق الغناء ونوافير المياه تحملها أسود من حجر البازلت الأصفر تسكب الماء من افواهها فى جداول رصعت بالفسيفساء .
مئآذن باسقة ومساجد شاهقة حزينة صامتة تشكو الحرمان وتقلبات الزمان وفى اعالى المحاريب رُكبِّتْ صُلبان .
عندما جاء مشهد مسجد قرطبة الكبير ، قال المحاضرُ للحاضرين ان المدخل به خزانتان مصنوعتان من الحجر ولا يعرف لأى غرض كانتا تستخدم .
نظر اليها من مقعده فشعر وكأنها أصيبت بقشعريرة مفآجأة ودمعت عيناها ، تناولت رقاقة ورقية من حقيبة يدها لتجفف دموعها وتدارى عينيها بينما كانت تحاول تصحيح المعلومة للمحاضر بقولها:
- إن هاتين الخزانتين كانتا من أجل وضع احذية المصلين.
كان جلوسه على مقربة منها ، بمجرد أن لاحظت بأنه اكتشف دموعها برغم الظلام المخيم على القاعة، احتواها الكثير من الخجل وهرولت الى خارج القاعة وهى تنهنه.
ارتبك المحاضر وأسرع خلفها ، مستفسرا عما اصابها ، تعللت بأنها متوعكة قليلا .
بوازع من الفضول لديه هو الآخر قام فتبعهما وفعل ذلك كل الحاضرين حتى فرغت القاعة عن آخرها وظلت الماكينة تعرض الفيلم مع نفسها.
رغب المحاضر فى ملاطفتها لرأب الصدع ، فلم يجد أمامه ما يقوله سوى انه قال لها :
- هى تعرفين هذا السيد؟ وأشار الى الذى اكتشف دموعها ..
إزدادت خجلا وقالت فى أدب بالغ وقد ظهر احمرار واضح فى عينيها:
- مع الأسف لا ..
قال وهو يبتسم : انه الشخص الذى يبحث عن مقبرة اندثرت من قديم الزمان ..!!!
قالت وقد ظهرت على وجهها ابتسامة عريضة : هل هى مزحة ؟
قال :
- صدقينى انها الحقيقة ، ثم تناول يدها برفق وسار بها نحو مجلة الحائط التى كانت معلقة هناك وقال :
- اقرأى وسوف تتأكدى من صدق أقوالى .. ثم اردف يقول : سيدتى متى سيصلنا دفتر تذاكر السفر البحرى الذى تعودت إرساله الينا كل عام .
نظرت اليه نظرة احتوت على الكثير من المعانى ، وكأنها أرادت أن تقول له :
- أحنا فى ايه والا فى ايه ؟ ، لكنها سرعان ما حاولت الابتسام وقالت :
- عندما يقترب موعد بدء رحلاتنا الصيفية الى أوروبا سيكون الدفتر جاهزا إن شاء الله .
قال لها بالفرنسية : مِرْسِى بُكوُ خالص يا هانم على الكرم الدائم .
اجابته بإيماءة خفيفة وهى تنظر الى المجلة ثم استدارت نحو الذى كان يقف عن كثب قائلة :
- ده أنت مصرى زييى ؟
- قال أكيد.
- قالت : وليه أكيد ؟
- علشان شكلى مينفعش الا يكون مصرى !!
- كادت أن تفطس من الضحك وهى تقول : أول مرة أعرف أن المصرى بيبان من شكله !!
قال مبتسما : الم تسمعى الغنوة التى تقول : مصرى ولونى بلون النيل؟
- قالت وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة عريضة : الحمد لله .
- قال لها : ليه بكيتى حينما شاهدت صور مسجد قرطبة الكبير. ؟
- قالت : لم تتحمل مشاعرى ما أرى.
- قال : ربما كان فى عروقك بعض من دماء أهلنا الذين عاشوا فى الاندلس.
- قالت : ولماذا لا .. فإن ما اشعر به من انجذاب وحنين الى تلك البقاع جعلنى كثيرا ما أفكر فى الذى تقوله الآن .
- قال : هل تحبين الأندلس الى هذا الحد ؟
- قالت : لا يمر عام حتى أزورها واصلى فى مسجد قرطبة ركعتين .
- قال : ولماذا قلت له انك متوعكة .
- قالت : أتظن اننى يمكن أن اصارحه بما اقوله لك الان ؟
فى تلك اللحظة تقدم المحاضر برفق وهو ينحنى قليلا قائلا : أنا نسيت أن أعرفك بالهانم .. انها صاحبة احدى اكبر شركات الملاحة البحرية .
- تشرفت بمعرفتك ياهانم .
- بصراحة اللى انت كاتبه ده هايل وشرف لنا جميعا .. يا الله شد حيلك علشان بدلا من أن نذهب نحن اليهم .. يأتوا هم الينا كى يشاهدوا الاكتشاف الرائع .
- إن شاء الله .
عند تلك اللحظة كانت ماكينة العرض قد اتت على نهاية الفيلم دون أن تجد أحدا يعمل على إيقافها. فالكل كان قد خرج مهرولا يسأل عن سبب انسكاب دموع السيدة الجميلة.
****