حدوقـــــــــــــــة
لصلاح ابوشنب
كان الصبيانُ ينتظرونـَه صباحَ كلَّ خميسٍ بشوقٍ بالغٍ ، يرقبونـَه من شرفاتِ منازلـِهم ، عند ظهورهِ بأولِ الشارعِ يًُهللون فرحينَ ، انه أبو حـَدُوقـَّه .. أسمر البشرةِ ، سَمِينُ البدنِ ، أكرشٌ ، لكنه خفيفُ الظلِ والحركةِ ، قفطانـُه الكستور المقلم بالخطوط الخضراء قليلا ما كان يستبدله ، كأنه يستدر عطف الناس ، يوحى اليهم بفقره ، كأنه لا يملك سواه ، يحوِّلـُه تارة الى قميص وأخرى الى قـُفطان ، يُدخل ثلثيه فى سرواله الرمادى الفضفاض ، مصنوع من التيل الغليظ ، قد يصلـُح ليكون شراعا لفلوكة من فلايك بحرى ، أو خيمة من خيم الرحالة ، له كـَمَرٌ عريض يلتف حول بطنه ، أكثرُ سماكـةً ، مطوى على نفسه مرتين، أشبه بحزام الفوز فى مصارعة البقر التى تقام فى قرى جنوب شرق آسيا.
يسميه الولدان " عم حـَدُوقـَّه أبو لباس بلية " ، لأن الجزء السفلى الخلفى من سرواله كان منتفخا، يتحرك يمينا ويسارا حسب اتجاه الريح ، يـُشبِّههُ الصبيانُ بإليةِ الخروفِ.
وضع أبو حدوقه فوق رأسهِ طاقية من نفس نوع القفطان فبدا لباسُه متناسقاً ، كان يعلقُّ على ذ راعهِ الأيمن المصابُ بالشلل، قفصاً كبيرًا من الخصوصِ يكادُ طولـُه يلمسُ الأرضَ ، كثيرًا ما يمتلأُ بأنواع الخبز اللدن والمقمر والفطائر والفاكهة التى يتلقاها من مشاهديه خلال جولته الاسبوعية التى يقطع فيها شارع محمد عبده إبتداء من المحكمة الكلية وحتى نقطة الأنفوشى ، ثم ينطلق بعدها الى أزقة رأس التين الضيقة.
فى ذراع أبو حدوقة اليسرى طبلة كبيرة مشدودة بإحكام الى عنقه ينقر عليها الحانه التى يؤلفها لنفسه ، ورغم ان إحدى ذ راعيه مشلولة الا انه يستخدمها فى توزيع الايقاعات بحنكة، حتى ليبدو فى كثير من الاحيان أنه يتصنع الشلل. !!
أبو حدوقة لم يكن فى الحقيقة هو أسم ذاك الغجرى العجوز ، وإنما تلك كانت نعتة نعته بها صبيان الحى .
أم حسن وأبناؤها من أشد المغرمين بأغانى أبو حدوقه يخرجون الى الشرفة
بمجرد سماع صوته ، تسارع بإرسال رغيف مقمر وتعريفة مع ابنها حسن.
يعرف أبو حدوقة زبائنه جيدا ، بمجرد رؤيته لحسن قادم نحوه يقابله بأغنيته المفضلة : "حسن يا بوعلى يا بطل الحتة .. حسن يا بو على يا متين الجتة .. بضربة واحدة تموت ستة ".
الست أم حميدة ترسل اليه حميدة بطبق الملوخية وطبق الأرز ، تنفرج أساريره قائلا : الله يبارك فيك يا ست يا كريمة .. عصافير بطنى بدأت تغنى ، ثم يغنى لحميدة : " حميدة يا حميدة يا ست الكل .. ياللى نهارك زى الفل .. قولى لحدوقة علينا يطل وغنى معايا ونادى عليه : ولا يا حدوقة ياولا ياحدوقة أعيش معاك وأكلها بدوقة ياولا ياحدوقة " .
الست عالية تطل من شرفتها فى الطابق السادس تناديه : استنى يا حدوقة سوسن نازلالك عاوزة غنـِّيوة مترتبة ..
تُسارع سوسن بلفافةٍ من ورق الصحفِ لا يدرى أحدٌ ما بداخلها، يتناولها أبو حدوقة، يـَدُسُّها فى قفصهِ ويتحولُ الى النقرِ على طبلتهِ من جديدٍ : سوسن يا منورة الحتة .. يا أجمل واحدة فى البنتـَّة .. جمالك والعيون السود ستة على ستة .
بعد أن ينتهى أبو حدوقة من عروضه يخلع طاقيته فتبدو صَلعـَتـُه.. يقلبها بمهارة .. يضعها فوق راحته .. يقطع الشارع جيئة وذهابا بترنيمة الختام : من فتح الباب فتح الله عليه ويرحم والدينا ووالديه .. حسنة يا طيبين .. حسنة يا محسنين للفقير المسكين .. قروش تنهمر من السماء احترف التقاطها .
***********