غالبًا ما يُتّهم طالب الإمارة في مجتمعاتنا بسوء النية
والطمع والتطلع لأخذ ما في يد الغير، بل يتعدى ذلك الاتهام إلى معاملته بازدراء
نتيجة ذلك، وبالمناسبة فإن طلب الإمارة لا يتوقف عند معانيها المعروفة في الأذهان
أي إمارة الدولة أو الأمة، فكل مهمة تستتبع مديرًا لها تعد في نظر الإسلام مسئولية
وإمارة تستوجب الرعاية وحسن الإدارة والتطوير والتحديث والعمل وفق خطة محكمة للزمن
الآني والمستقبلي، وتلافي السلبيات التي حدثت في الفترات الماضية.
ولقد صدق أحدهم حينما قال بأن الإدارة في مجتمعاتنا
الإسلامية الآن تقوم - في الغالب - على الفهلوة وتقريب أهل الثقة والاعتماد على
نظرة الأنا دون غيرها في الحكم على الأشياء، ونسى هؤلاء أن المجتمعات المدنية
المتقدمة في عالمنا الحاضر تستكشف كل يوم أسلوبًا جديدًا في منظومة الإدارة؛
لترتقي مؤسساتها وفق نظام عادل يحقق مصالح الهياكل العاملة في تلك المؤسسات، فضلاً
عن تحقيق ما تصبو إليه هذه المؤسسات ذاتها، ولنا في الأزمة المالية العالمية التي
حدثت في أواخر عام 2008م ولا زالت خير مرشد في التعامل النقدي البنّاء مع أي مؤسسة
كانت، إن كان لنا في التاريخ عبرة وعظة!
والحق أن التشريع الإسلامي قد حذّر من طلب الإمارة في
أكثر من نص، فالقرآن الكريم يوضّح في قوله تعالى )تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا
يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ( بأن طالبي المكانة العالية الحريصين على كل ما من شأنه رفعتهم
وعلوهم بين الناس بغير حق لا يكونون من أهل التقوى والآخرة، واللافت أنني وجدتُ
أكثر من كاتب يستعين بهذه الآية الكريمة كدليل لا غبار عليه للتأكيد على مذمة طلب
الإمارة والمسئولية.
وتوضّح السنة النبوية حقيقة طلب الإمارة بجلاء وتفصيل في
أكثر من حديث للنبي صلى
الله عليه وسلم لأكثر من صحابي، فنراه قائلاً لعبد الرحمن بن سمُرة t في حديث أخرجه الإمامان البخاري ومسلم:
"يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها
وإن أوتيتها من غير مسألة أُعنت عليها.."، ونراه r قائلاً للصحابي الجليل أبي ذر t بعدما سأله الإمارة: "يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة
وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها"،
ويقول r : "ما من أمير يلي أمر
المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة"، وفي حديث آخر
يتحدث عن الإمارة الصغرى: "ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة
مغلولا لا يفكه إلا العدل أو يوبقه الجور"...
فهذه الأحاديث النبوية السابقة التي توضح أن طلب الإمارة
أمر مذموم ومكروه؛ حيث حرْص المشرّع الكريم على تربية أبناء الأمة الإسلامية على
التجرد والبعد عن الأثرة وحب الرئاسة والزعامة، قد تُشكلُ القارئ غير المتخصص إذا
قارنها بالقرآن الكريم في قول يوسف u لملك مصر )قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي
حَفِيظٌ عَلِيمٌ(، حيث الأمر في غاية الوضوح فيما يتعلق بطلبه u للإمارة؛ لكونه الحفيظ على هذه الأموال،
العليم بطرائق استثمارها وتنميتها وهو ما ظهرت آثاره الإيجابية في السنين العجاف
على مصر وبدو الشام وغيرهم.
ويزداد الغموض والحيرة فيما يتعلق بشروح علماء السنة
للأحاديث السابقة، فالإمام ابن دقيق العيد (ت702هـ) يشرح حديث عبد الرحمن بن سمرة
ويستخلص منه الأحكام الفقهية المتعلقة به، ويمكن أن يُستفاد بما توصّل إليه شخصيًا
في هذه المسألة بقوله: "لما كان خطر الولاية عظيمًا بسبب أمور في الوالي
وبسبب أمور خارجة عنه: كان طلبها تكلفا ودخولا في غرر عظيم فهو جدير بعدم العون
ولما كانت إذا أتت من غير مسألة لم يكن فيها هذا التكلف: كانت جديرة بالعون على
أعبائها وأثقالها، وفي الحديث إشارة إلى ألطاف الله تعالى بالعبد بالإعانة على
إصابة الصواب في فعله" فهو يقرر أن طلب الولاية خطر عظيم، ومسألة تستوجب
الحذر وعدم الخوض فيها. وقد خرج الإمام النووي رحمه الله (ت676هـ) بفائدة جميلة
أثناء شرحه لحديث النبي r لأبي ذر t عندما سأله الإمارة بقوله "هذا أصل
عظيم في اجتناب الولاية لا سيما لمن كان فيه ضعف وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية
ولم يعدل؛ فإنه يندم على ما فرط فيه، إذا جوزي بالجزاء يوم القيامة، وأما من كان
أهلاً لها وعدل فيها، فأجره عظيم كما تضافرت به الأخبار، ولكن في الدخول فيها خطر
عظيم؛ ولذلك امتنع الأكابر منها فامتنع الشافعيُّ لما استدعاه المأمون لقضاء الشرق
والغرب وامتنع منه أبو حنيفة لما استدعاه المنصور فحبسه وضربه والذين امتنعوا من
الأكابر جماعة كثيرون".
وتتوالى شروح علماء السنة على هذا المنوال من الحذر من
طلب الإمارة، دونما أي رابط بين هذه الأحاديث وطلب يوسف u لوزارة المالية والزراعة في مصر على ما نصّ القرآن الكريم في سورة
يوسف، ولكن يستوقفني قول العلامة الغزالي(ت 505هـ) في الإحياء في هذه المسألة
بقوله الرائع: "لعل القليلَ البصيرةِ يرى ما ورد من فضل الإمارة مع ما ورد من
النهي عنها متناقضًا وليس كذلك، بل الحق فيه أن الخواص الأقوياء في الدين لا ينبغي
أن يمتنعوا من تقلد الولايات، وأن الضعفاء لا ينبغي أن يدوروا بها فيهلكوا، وأعني
بالقوي الذي لا تميله الدنيا، ولا يستفزه الطمع، ولا تأخذه في الله لومة لائم؛ وهم
الذين سقط الخلقُ عن أعينهم، وزهدوا في الدنيا وتبرّموا بها وبمخالطة الخلق،
وقهروا أنفسهم وملكوها، وقمعوا الشيطان فأيس منهم؛ فهؤلاء لا يحركهم إلا الحق، ولا
يسكنهم إلا الحق، ولو زهقت فيهم أرواحهم؛ فهم أهل نيل الفضل في الإمارة والخلافة.."
إن هذا الضابط المهم الذي أجلاه الإمام الغزالي لهو أكبر
دليل على عدم تعارض نص القرآن الكريم بأحاديث النبي r كما قد يُخيّل لأحدنا، كما هو دليل على فقه مقاصدي عظيم تمتع به
علامه فقيه كالإمام الغزالي، فطلبُ الإمارة ليس كما يُعممّه البعض على أنه نوع من
أنواع الطمع في الدنيا – وهذا ما حذّر منه النبي r - لكنه مرتبط بعلل واضحة، فأبو ذر t كان – كما رأى النبي r - من
الضعفاء غير القادرين على تحمّل هذه التبعة العظيمة مع ما فيه من زهد وصلاح وخير
وهو أحد الصحابة الكرام، ولذلك استثنى الحديث كل من يأخذ الإمارة بحقها ويؤدي الذي
عليه منها، أي يعلم جيدًا الواجبات والحقوق، ثم يستتبع ذلك بعمل واقعي يُثبتُ فيه
قدرته على الإدارة والإمارة، وهذا ما فعله يوسف u في مصر.
ولقد علّق الفقيه المغربي الشهير أحمد الريسوني على حديث
النبي r: "إنا والله لا نولي
هذا العمل أحدا سأله، ولا أحدا حرص عليه" تعليقًا رائعًا أوضح فيه هذه
القضية بقوله: "هذا الحديث صريح، مؤكد بالقسم، في أن من طلب الإمارة أو حرص
عليها لا تعطى إياه، ولذلك مقاصد ومصالح لا تخفى؛ وحسبنا أن أعظم مصائبنا هو
الصراع على الإمارة بين طلابها، وتسلطهم على الأمة من غير أهلية منهم ولا موافقة
منها، وللحديث مرام تربوية تتمثل في كبح أطماع النفوس من حب للرئاسة والعلو
والظهور وما في ذلك من مكاسب مادية ونفسية. ومع هذا كله فإن التطبيق المصلحي
المتبصر ينظر ويميز ويستثني الحالات التي تكون مبرأة من هذه الآفات، وتكون محققة
لمصالح أخرى واضحة، ولذلك وجدنا النبي عليه الصلاة والسلام يولِّي ويؤمِّر من سأله
ذلك، كما في قصة زياد بن الحارث من قبيلة صداء، وكان هذا الرجل هو الذي قاد وفد
قبيلته إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ليعلنوا إسلامهم الذي تبعه إسلام
قبيلتهم، قال زياد: "وكنت سألته أن يؤمرني على قومي، ويكتب لي بذلك كتابا،
ففعل".
فالمصلحة الشرعية هي التي يجب أن تحرك السائل والمسئول
تجاه التولية من عدمها، ولذلك فحظ النفس الذي يحرّك الإنسان لطلب الإدارة أو
الإمارة هو أمر تصدت إليه الشريعة الغراء وكذا عدم الأهلية أو الصلاحية مع كون
السائل صالحًا زهيدًا، ولذلك علق الإمام ابن القيم (ت 756هـ) رحمه الله على قصة
زياد بن الحارث من قبيلة صداء بقول أختم به حديثي: "وفيها جواز تأمير الإمام
وتوليته لمن سأله ذلك إذا رآه كفأ، ولا يكون سؤاله مانعًا من توليته، ولا يناقض
هذا قوله في الحديث الآخر: "إنا لن نولي على عملنا هذا من أراده"،
فإن الصدائي - زياد بن الحارث - إنما سأله أن يؤمره على قومه خاصة وكان مطاعا
فيهم، محببا إليهم، وكان مقصوده إصلاحهم ودعاءهم إلى الإسلام، ورأى أن ذلك السائل
- الذي في الحديث الأول - إنما سأله الولاية لحظ نفسه ومصلحته هو، فمنعه منها؛
فولى للمصلحة، ومنع للمصلحة، فكانت توليته لله، ومنعه لله". فهذه هي القضية
الجوهرية أن يكون الباعث على الإجابة والمنع منطلقًا وفق التصور
الإسلامي لإدارة المؤسسات والشركات والدول
والأمم وغيرها...