وعدتكم بأن أكتب ما لدىَّ من معلومات عن مؤامرة بيع مصر للأجانب، وبمجرد نشر المقال وصلتنى تعليقات متباينة إلى حد العجب، أحدها لم ير فى المقال كله إلا مجرد ذريعة للهجوم على إبراهيم عيسى، ولولا الوعد الذى قطعته على نفسى، لعدت لهذا الموضوع لأقول ما لدى، وهو كثير ومحزن، كما استثارنى تعليق مزدوج على الموقع الإلكترونى لـ«المصرى اليوم» أرسله قارئ كريم الساعة 10.48 صباحا،
وقال فيه: «لن تستطيع أن تكتب عن هذه القضية فى المقال القادم، ليس بسبب توجيه (نظامى)، أى ليس بتوجيه من حراس الفساد المعروفين المستبدين المتسلطين عبر ثلاثة عقود، ولكن بتوجيه من (....)»، ثم عاد القارئ الكريم الساعة 4.53 عصرا ليكتب «تأكدت أنك ستكتب، ولكن يا رب تكون خالصة لله، ثم من أجل مصر، وليس لحساب صراعات»، ووجدت الرسالتين وأكثر على بريدى الإلكترونى أيضا، وتساءلت عمن يكون (...) الذى سيضطرنى لعدم الكتابة، وأدركت أننا، للأسف، أصبحنا نستكثر على أنفسنا حتى هامش الحرية المتاح لمجرد الكلام،
وهذا يعنى أن قاعدة المجتمع ليست مؤهلة بجد لطرح قضاياها الشائكة، بل على العكس تبدو جاهزة لنوع من التواطؤ مع تصوراتها عن سلطات خفية تستطيع أن تسمح بما تشاء وتمنع ما تشاء، وبالتالى فإننا مهما كتبنا أو تحركنا، فنحن لا نعبر من وجهة نظر الناس عن إرادة حرة أو وعى مستقل، بل نلعب فى المساحات الممنوحة لنا من جانب سلطة بإمكانها أن تحجب ما نريد أن نقول،
بل وتستطيع أن تحجبنا نحن أيضا، وهذا فى رأيى أول البيع وأخطره، وأعترف لكم بأننى شعرت ببعض العبث فى أن أطرح قضية «بيع الوطن» وأحدكم يقول لى: وإيه يعنى.. عادى.. طالما بيع وشراء بالاتفاق، أو «يتفزلك» آخر ويقول: «قديمة» فقد قرأت من قبل عن قضية بيع مساحات من سيناء لليهود، وكذلك بيع آلاف الشقق السكنية فى شرم الشيخ، لكن هل يعنى هذا أن نبارك بيع مصر للأجانب؟! السؤال ليس من قبيل البلاغة أو الاستفزاز، أو تحريض المعارضة ضد النظام، لكنه سؤال يحدد مصير وطن،
فالله سبحانه وتعالى خلق الجغرافيا، وترك التاريخ للإنسان يصنعه من خلال علاقته بالأرض، التى وصفها علماء الاقتصاد بأنها السلعة التى تم تصنيعها لمرة واحدة، وبالتالى فإن علاقتنا بالأرض هى التى تكتب تاريخنا، والذى يحدث الآن أننا نستهين بالتاريخ والجغرافيا معا، لأننا لا نموت دفاعا عن هذه الأرض، ولا نغنى لها «الأرض أرضنا»، ولا نعاير بائعها على طريقة «عواد باع أرضه.. يا ولاد.. شوفوا طوله وعرضه.. يا ولاد»،
بل ياللخيبة تحولنا إلى سماسرة ووكلاء ومزورين نتاجر فى جسد الوطن ونسهل بيعه بالتدليس للأجانب، ومصيبة عصابة سيناء مثلا أن المتهمين كانوا من رجال القانون والشرطة، وليسوا من الجهلاء، كما أن سماسرة الأراضى معظمهم من كبار المسؤولين وأولادهم، وسكان «القلعة» الذين يسعون، بلا حياء، إلى «تخريم» جغرافيا البلد، وتحويلها فى أقل الأحوال خطورة إلى مجرد مزرعة للخليج، أو «مسمار جحا» للأعداء، كما كنا فى الماضى البعيد مزرعة قمح للرومان، والماضى القريب مزرعة قطن للإنجليز.
لن أتوقف عند إقطاعيات الوليد والراجحى والإبراهيمى وغيرهم، ولا عند آلاف الأفدنة التى يتم تمليكها فى الظلام لأفراد وعائلات بعينها، ولا عند الاحتكارات التى «تفبركها» تكتلات مالية وشركات سمسرة لصالح أجانب، لكننى أتساءل عن موقفنا من كل هذا، فإما أن نشارك فى الخريطة الجديدة التى يتم رسمها لمصر، ونطالب بقانون إصلاح واستصلاح زراعى عصرى، وإما أن نرضى بالسخرة فى «الخاصة الملكية الجديدة»، ويجب أن نتذكر دوما أن هذه الأرض ليست ملكا لأجداد رحلوا، لكنها أمانة فى أعناقنا لأحفاد سوف يولدون، فالعار كل العار أن نفرط فى ميراث أحفادنا لحفنة من الغرباء المشبوهين وأذنابهم.
منقول