كلمة من ثلاثة حروف كنت أسمعها فلا ألقى لها بالاً، وكنت أقولها مراراً بحسرة حيناً وباستهزاء حيناً آخر، لقد جحدت فضلها ونسيت كرمها وحملتها أسباب بؤسى وشقائى ولعنتها كل صباح، ولم ألق بالاً لألمها، أو ألتفت لأوجاعها، بل صرت عبءً عليها، تخليت عنها عندما كانت فى أمس الحاجة إلىّ، وهجرتها عندما ضعفت، وتجاهلتها حينما نادت.
لقد كانت أما وكنت ابنا عاقا، حمّل أمه نتيجة أخطاء ليس لها يد فيها، فهى ضعيفة بضعفى، فأنا ولدها وكان الأحرى بى أن أضمها إلى صدرى، أدافع عنها حتى آخر قطرة دماء، لا أتركها للذئاب تنهش سنينا من لحمها، وأنا أقف وأشاهد فى صمت، لقد كنت ضعيفاً مقهوراً، ابن جحد فضل أمه عليه، ويرفض أن يمد يده لها فى أوقات الشدة وما أكثرها، واكتفى بالجلوس هادئا غاضباً يلعن كل يوم أنه أبناً لها، ويتمنى لو كانت له أم أخرى، كآخرين يراهم أحسن حالاً منه، تمنى لو ولد فى أحضان غيرها، بل تمنى لو أنه لم يولد، ولو أنه لم يرَ هذه الدنيا.
ولكن فى لحظة تغير حاله، لحظة أن تصاعدت الأحداث، وأحس أن أمه تناديه باسمه، وترجوه أن يساعدها، فى بداية الأمر ظنه حلماً، فهو لم يسمع صوتها منذ زمن، وقد ظن أنها لم تعد تنطق، ولكنه لم يقدر على تجاهلها، لقد تصاعد الدم إلى رأسه، وهب مسرعاً وأقسم على حمايتها، حتى لو كلفه الأمر حياته، فهو ولو لمرة أحس بأن حياته قد تمثل فارقاً لأحدٍ ما، فوقف وصمد وخسر عرقاً ودماً، ورأى أخوة له يموتون أمام عينه من أجل رضاها، فلم ينزاح عن موقفه، فلقد أدرك خطأه، وعرف جحوده، وأحس لأول مرة بدفء حضن أمه، وعلم أنها أعظم الأمهات، فهى لم تتخل عنه يوماً، ولم تدر ظهرها له، بل هو من تخلى عنها كل يوم، ولكن هذا اليوم سيقف ويناضل، لعلها تغفر له تقصيره، فهى تستحق فى كل يوم أن تبقى له فى حياته، وقد أقسم على تسخير حياته لها، وقطع العهد أن يموت تحت قدميها، لن يتهاون فى حقها ولن يتخازل فى حمايتها، فليس بعد الأم أحد يبقى عليه.
وبفضل بسالته وجلده وحبه استطاع تحريرها، ورفع رأسها، وبفضل جرأته أخاف الذئاب، وشجاعته وبسالته أصبح يُضرب بهما المثل، وحينها تمنت كل أم لو أن لها ولداً مثله، وتمنته أن يكون ابنها، فلقد ضرب مثلاً حياً فى الصمود، فله كل التحية، فهو بكل فخر ابن مصر البار.