تدبَّر صلاح الدين شئون المدينة قبل مغادرتها في الخامس والعشرين من شعبان، وأعاد إليها صفتها العربية الإسلامية، فأمر بتسليم بيوت من قُتلوا أو أخرجوا لورثتهم، وقوّاهم بإقطاع بعض أحياء المدينة لقبائل عربية، فأنزل بني حارث قرب القلعة، وبني مرة في سوق الفخر (عرفت بخان الزيت فيما بعد)، وبني سعد في الحي الذي عرف فيما بعد بالسعدية، وبني زيد بقرب باب الساهرة.
وأنشأ صلاح الدين في المدينة عددًا من المعاهد لخدمة سكانها، منها رِباط للصوفية ومستشفى (بيمارستان) للمرضى، كما أنشأ أيضًا المدرسة التي عرفت باسمه فيما بعد، وفوض إدارتها إلى القاضي بهاء الدين بن شداد، والغالب أنها خلفت (دار العلم) الفاطمية التي أنشئت مكانها كنيسة القديسة حنة (أم مريم العذراء) أيام الاحتلال الصليبي.
وأوقف صلاح الدين على هذه المعاهد وغيرها الأوقافَ لضمان نفقة إدارتها، ثم أمر بتعمير سور المدينة، وحفر الخندق حوله، وأقام مقبرة للمجاهدين بقرب باب الساهرة، بالإضافة إلى مقبرة كان الصليبيون قد دنسوها، ومقبرة باب الرحمة خارج سور الحرم الشريف من الشرق.
وفكَّ صلاحُ الدين أسْرَ آلافٍ من المسلمين، كانوا قد وقعوا في يد الصليبيين في المعارك الكثيرة التي دارت بينهم وبين المسلمين، وشمَّ هؤلاء الأسرى رائحة الحرية في جو من السعادة الغامرة بالفتح، وأحسن القائد إليهم، ومنحهم المال، وكساهم، ورجع كل منهم إلى أهله ووطنه ومسكنه.
ولم يرحل نصارى الشرق من سكان القدس مع الصليبيين، بل طلبوا من صلاح الدين أن يبقيهم ففعل، على الرغم من أن بعضًا منهم شايع الفرنجة وساعدهم، ولما رحل بطرِيقُ اللاتين مع الفرنج الذين رحلوا، خلا الميدان لإعادة تأسيس البطريركية الأرثوذكسية التي ألغاها الصليبيون، وقد تمَّ ذلك برضا صلاح الدين ومساعدته.
ليس هذا فحسب بل إنه لم يحرم هؤلاء النصارى من زيارة الأماكن المقدسة لهم في أمان تام وحرية كاملة، حتى إنه قد خصص حراسة للحجاج المسيحيين الذين اتجهوا إلى زيارة كنيسة القيامة.
أما عن اليهود الذين لم يُبق الصليبيون منهم حيا في المدينة، فقد سمح صلاح الدين لبعضهم أن يقيم في المدينة، وفتح جميع مملكته للمضطهدين منهم، فجاءوا إليه يطلبون الأمن ويلاقون العدل.