قاعدة الدرب اليسير للوصول إلى الصراط المستقيم،
،ذكرها ابن القيم الجوزية ،،
وها هي :
°°°° حراسة الخواطر وحفظها ، والحذر من إهمالها والاسترسال معها . فإن أصل الفساد كله من قبلها يجيء ، لأنها هي بذر الشيطان والنفس في ارض القلب . فإذا تمكن بذرها تعاهدها الشيطان بسقيه مرة بعد أخرى حتى تصير إرادات ،ثم يسقيـــها بسقيه حتى تكون عزائم ، ثم لا يزال بها حتى تثمر الأعمال.ولا ريب أن دفع الخواطر أيسر من دفع الإرادات و العزائم ، فيجد العبد نفسه عاجزا أو كالعاجز عن دفعها بعد أن صـــارت إرادة جازمة ، وهو المفـــــرط إذا لم يدفعها وهي خاطر ضعيف ؛ كمــن تهاون بشرارة من نار وقعت في حطـــب يابس فلما تمكنت منه عجز عن إطفائها .
فان قلت :
فما الطريق إلى حفظ الخواطر ؟
قلت : أسباب عدة :
-احدها : العلم الجازم باطلاع الرب تعالى ، ونظره إلى قلبك ، وعلمه بتفاصيل خواطرك .
-الثاني : حياؤك منه .
-الثالث : إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في بيته الذي خلق لمعرفته و محبته .
-الرابع : خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر .
-الخامس : إيثارك له أن تساكن قلبك غير محبته .
-السادس : خشيتك أن تتولد تلك الخواطر ، ويستعر شرارها ، فتأكل ما في القلب من الإيمان ومحبة
الله فتذهب به جملة وأنت لا تشعر .
-السابع : أن تعلم أن تلك الخواطر بمنزلة الحب الذي يلقى للطائر ليصاد به .
فاعلم أن كل خاطر منها فهو حبة في فخ منصوب لصيدك وأنت لا تشعر.
-الثامن : أن تعلم أن تلك الخواطر الرديئة لا تجتمـع هي وخواطــر الإيمان ودواعي المحبة والإنابة أصلا . بل هي ضدها من كل وجه ، وما اجتمعا في قلب إلا وغلــب أحدهما صــــاحبه وأخرجه ، واستوطن مكانه . فما الظن بقلب غلبت خواطر النفس والشيطان فيه خواطر الإيمان والمحبة و المعرفة ، فأخـــرجتها و استوطنت مكـــانها ؟ لكن لو كان للقلب حياة لشعر بألم ذلك وأحس بمصابه .
-التاسع : أن تعلم أن تلك الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له . فإذا دخل القــلب في غمراته غــرق فيه وتـــــاه في ظلماته ، فيطلب الخلاص منه فلا يجد إليه سبيلا . فقـــلب تملكه الخواطر : بعيد من الفلاح ، معذب ، مشغول بما لا يفيد .
-العاشر : أن تلك الخواطر هي وادي الحمقى وأمــــاني الجاهلين . فلا تثمر لصــــاحبها إلا الندامة والخزي ، وإذا غلبت على القلب أورثته الوساوس ، وعزلته عن سلطانها وأفسدت عليه رعيته ، وألقته في الأســر الطــويل .
كما أن هذا معلوم في الخواطر النفسانية ، فهكذا الخواطر الإيمانيـــة الرحمانيـــة هي أصل الخير كله . فان أرض القلب إذا بذر فيها خواطر الإيمــــان و الخشية و المحبة والإنابة و التصديق بالوعد ورجاء الثواب ، وسقيت مرة بعد مرة ، وتعاهدها صاحـــبها بحفظـــها ومراعــاتها و القيام عليـــها ، أثمرت له كل فعل جمــيل ، وملأت قلبه من الخيرات، واستعملت جوارحه في الطــــاعات ، واستقر بها الملك في سلطـــانه واستقــامت له رعـــيته . ولهذا لما تحققت طـائفة من السالكين ذلك ، عملت على حفظ الخواطر؛ فكان ذلك هو سيرها وجل أعمالها .
وهذا نافع لصاحبه بشرطين :
أحـــدهما : ألا يترك به واجبــا ولا سنة .
والثاني : ألا يجعل مجرد حفظــها هو المقصود ، بل لا يتم ذلك إلا بان يجعل موضعـها خواطر الإيمان و المحبة و الإنابة والتوكل والخشية ، فيفرغ قلبه من تلك الخواطر ويعمره بأضـدادها .
وإلا فمتى عمل على تفريغه منها معا كان خاسرا ؛ فلا بد من التفطن لهذا .
ومن هنا غلظ أقوام من أرباب السلوك ، وعملوا على إلقاء الخواطر وإزالتها جملة ،فبذر فيها الشيطان أنواع الشبه والخيـالات .فظنوها تحقيقا وفتحا رحمانيا ، وهم فيها غالطون ، وإنما هي خيالات وفتوحـات شيطانية ، والميزان هو الكتــاب النـــاطق ، والفطرة السلـــيمة ، والعقل المؤيد بنور النبوة ، والله المستعان .
----------------------
(1): طريق الهجرتين وباب السعادتين للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله