يشرح برتراند رسل أحد أكبر فلاسفة الغرب حول التطور العلمي الذي رعاه العرب:« في العصور الوسطى المظلمة كان العرب هم الذين يقومون بمهمة تنفيذ التقاليد العلمية، أما المسيحيون [ إي الغرب المعاصر]...، فقد اكتسبوا منهم إلى حد بعيد ما اكتسبوه من معرفة علمية حازتها العصور الوسطى اللاحقة.» (1934:22)
مع ذلك سرعان ما سيتقاعس العرب خلال فترة ليست بالقصيرة من تاريخ الإنسانية عن الإسهام في صيرورة هذا العلم، وكأنهم أنزلقوا في سبات عميق، انطلقت خلاله في الغرب ثورات وثورات علمية...عاشوا خارجها تماما، كما أنها أخرجتهم كليا من حساباتها...
غير أن مطلع القرن الجديد وتبلور أفق العلم المعاصر، هذا الذي أخذ يدير ظهره تماما للعلم الحديث /"العلماي" الذي سيطر على نهضة القرن العشرين، وفق نتائج الثورات العلمية الجديدة التي أركعت العقل الإنساني وفتحت أبواب العلم من جديد أمام الروحانيات، قد جعل الأنظار تتجه من جديد نحو الفضاء الإسلامي، وتبحث عنده على إجابات مقنعة للأسئلة التي أخذت تعصف بالعلم اليوم.
في هذا الحوار الذي أجرته الراية مع بعض من العلماء المسلمين نعرج إلى هذا البعد الذي افتقدته العلوم الحديثة، وكيف أن الأخلاق أو الروحانيات التي يحتاجها العلم المعاصر ما زالت قائمة في قيمنا الروحانية حول السؤال هل يمكن أن يقوم العلم بدون روحانيات أو بدون أخلاق؟
يجيب البرفسور محمد باسل الطائي أستاذ الفيزياء النووية في جامعة اليرموك بالأردن مؤكدا:
أن السؤال حول الأخلاق والعلم سؤال مهم في وقتنا هذا بالذات؛ فمما لا شك فيه أن العلم كما نعرفه حتى الآن لا يتمكن من توفير الأرضية اللازمة لاستنباط منظومة قيم أخلاقية شاملة. بل كما يقال فإن العلم محايد بهذا الشأن. والأخلاق يمكن أن تجد تأسيسها في الدين فقط. فالدين هو الذي يعطي الأخلاق إطارها الفكري والمعنوي. وقد كتب مفكرون عديدون في هذا الشأن منذ أرسطو طاليس، كما أسهم متكلمو الإسلام وفلاسفتهم في هذا الشأن وأفادوا أن العلم الاستنباطي العقلي يهدي إلى الحق ويمكن أن يؤسس لأرضية منظومة أخلاقية سامية وهذا رأي ابن طفيل في قصة حي بن يقظان.
ألا أن المعتزلة أبدوا رأيا آخر أكثر دقة فميزوا بين الاستنباط العقلي العام وبين العلم الطبيعي وناقشوا مسألة الحسن والقبح العقليين وقارنوها بموقف النص الديني منها. ومن المعروف عموما أن المعتزلة حاولوا التأسيس لنظرية في الأخلاق تستنبط من العقل. لكننا يجب أن نعترف اليوم أن استنباط مثل هذه النظرية علميا كان ولا يزال بعيدا عن حقل العلم بل هو يقع في حقل الأيمان الديني أو الفلسفي.
لكن هل يمكن أن يقوم العلم بدون أخلاق أو روحانيات؟ ربما إنما كيف سيكون ذلك والى أية نهاية سينتهي؟ أقول أولاً إن العلم أساسا محايد فالعلم يكشف لنا عن الطاقة التي في الذرة ونحن البشر يكون أمامنا أن نستخدمها للتعمير أو التدمير فهذه الطاقة يمكن أن نولد بها الكهرباء ويمكن أن نصيرها قنبلة نلقيها على الناس الآمنين لتقتلهم بالجملة. أي أن القرار هو بيد الإنسان والعلم نفسه محايد.
ولكن ماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن مجتمعا لا قيم ولا أخلاق فيه غير مبدأ (البقاء للأقوى) لا يمكن إلا أن يفني نفسه بالنهاية. وحالة مثل هكذا مجتمع بشري هي أسوأ بكثير من حالة مجتمع حيواني يخلو من أي التزام أخلاقي. وذلك لأن ذكاء الإنسان وحيلته الخارقة تجعلانه قادرا على التدمير اللامحدود، لكن الحيوان بموجب محدودية قدراته ومحدودية ذكائه فإن قدرته التدميرية ستكون محدودة بدورها. من هذا المنطلق أقول أن من الضروري أن يدرك الإنسان الدور الإيجابي للدين في حياته ولن يكفينا التمسك بما يسمى (الإلحادية الإيجابية) التي يدعوا لها المفكر البريطاني المعاصر رتشارد داوكنز ومؤيديه، فإن هذه الإلحادية الإيجابية لن تؤسس لأخلاقيات عامة بل ستؤسس لمنظومة قيم عملية أو قيم سوق في أحسن أحوالها وشتان بين قيم السوق الوقتية المصلحية والأخلاقيات العامة والراسخة التي تؤسس لها الأديان بحسب المراد وبحسب المتاح...