لقد فرض الله الحج على المستطيع من المسلمين منذ أواخر السنة التاسعة من الهجرة "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا" "آل عمران:97" وذلك بالتوجه إلى الكعبة، لأداء أفعال مخصوصة، أو زيارة مكان مخصوص، بفعل مخصوص، فالمكان المخصوص الكعبة وعرفة، والزمن المخصوص أشهر الحج: شوال وذو القعدة وذو الحجة، خاصة العشر الأوائل منه، ولكل فعل زمان خاص به، فالطواف حسب رواية الترمذي "..حول البيت مثل الصلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه فمن تكلم فلا يتكلم إلا الخير"، والوقوف بعرفة من زوال الشمس يوم عرفة لطلوع فجر يوم النحر، والفعل المخصوص أن يأتي قاصدا الحج محرما بنية الحج إلى أماكن معينة.
إنه لقاء شعبي تتغذى فيه الطاقة الروحية بأعز الفضائل من أخوة وتضامن وتواضع ومحبة وألفة ووئام واطمئنان وغيرها، وتصفو النفس وتخلع عنها رداء النوازع المنحرفة أو المتطرفة، وتلبس حلة التقوى، ورداء الحب للخالق. فالإحرام هو خضوع عن قناعة إلى قيمة أخلاقية سامية هي المساواة؛ إلى جانب أن الحج عبادة هناك أمور أخرى هامة نافعة منها:
أولا: المعاينة المثيرة لوجدان المؤمنين حين يواجهون بيت الله الحرام، أو حين يشرفون على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وهم الذين طالما توجهوا إلى الكعبة وتخيّلوا مشهدها، وتشوّقوا إلى الطواف حولها بشعائر دينه، وهي تتم في جوّ رائع أقبلت فيه ملايين من المؤمنين على هذه المعاينة المباركة، وفي ذلك حياة لمشاعر حجاج بيت الله.
ثانيا: إن المؤمن يقضي فترة طويلة لا همّ له إلا الذكر والتلبية والتجرّد لهما من كل شواغل الحياة الدنيا. لقد قضى عمرا طويلا في أمور معاشه العاجل، وآن له أن يهتم بتقديم شيء لمصيره الآجل، وليس كالذكر والتلبية وسيلة إلى التقرب من الخالق، وهو ذكر يحدث في أطهر بقعة على وجه الأرض، وفي ظروف تجرّد تام يرفع الدعاء إلى مستوى الاستجابة. "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان" "البقرة:185"، "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم" "غافر:60". ومن المأثور عن أبي ذرّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن داود النبي قال: "إلهي ما لعبادك عليك إذا هم زاروك في بيتك؟" قال "إن لكل زائر حقا على المزور يا داود، لهم علي حق أن أعافيهم في الدنيا وأغفر لهم إذا لقيتهم" رواه الطبراني.
ثالثا: ما يعود على المسلم من الحج تجربة تربوية لا يتعرّض لمثلها مدة حياته أبدا، ذلك أن الدين يفرض على سلوك المؤمن رقابة صارمة لا تفوت له أدنى مخالفة بل إنها لتحاسبه حسابا عسيرا على كل ما يرتكب من مخالفات ولو يسيرة، وقد جدّدت الآية القرآنية المحظورات في قوله تعالى "فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج" "البقرة:197". وهذه المحظورات قد يستوجب فعلها فرض عقوبة على مرتكبها من صدقة أو إهراق دم، غير أن ذلك يتم ضبطه من المؤمن رقيبا على نفسه يحاسبها ويضبط أهواءها، ويقرّر عقوبتها، فالعبد في وقت واحد متهم وقاض ومنفذ، والله وحده هو المطلع عليه في ذلك ينظر تصرّفاته، ويسجل نزاهة عمله في موسم الذكر والتقرب، وفي ذلك أعظم تربية لضميره.
ويتّفق مع الآية السابقة قوله صلى الله عليه وسلم "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه"، إضافة إلى ما قد يمارسه المؤمن من تجارة نافعة في الموسم أباحها الله له، قال تعالى "وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات" "الحج:27- 28". ندرك من هذا السياق حكمة الحق سبحانه من تقديم المنافع على ذكر الله، لأن هذه المنافع التجارية تتوقف عليها حياة الألوف من الحجاج حتى يستطيعوا أن يؤدوا ما طلب إليهم من ذكر الله في أيام معلومات، "وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" كما يقول علماء الأصول.
والأهم من كل ذلك اجتماع عدد هائل من ذوي القلوب النقية والمشاعر التقية في مكان واحد لهدف واحد، وبوجهة واحدة يهتفون بنداء واحد "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، هذا التجمع التلقائي يحرّك سواكن الأمم الإسلامية للنظر في إيجاد حل لمشكلاتهم الروحية والاقتصادية والاجتماعية على أساس إنساني دعا إليه الإسلام كمشكلة الجوع المادي، والجوع الروحي وهو خراب الضمائر.
إن الدين الإسلامي حضّ على التعاون ودعا إلى التكافل، ورغّب في العمل وأكّد على التآلف والتحابب والتسامح. واليوم يعيش العالم الإسلامي مأساة الشعب الفلسطيني الذي استقر الاستعمار على ترابه وشرّد أصحاب الأرض، وقتل منهم الكثير. فقد ثبت الاستعمار بسبب تفرّق كلمة المسلمين والعرب وتمزّق وحدتهم.
ندعو الله أن يوحّد صفوفهم، ويطهّر عقولهم من الوساوس والأمراض حتى يؤدوا الحج بسلام، سواء بالإحرام بالإفراد بالحج وتقع العمرة بعده أو بالإحرام بالتمتع فتقع العمرة أولا ثم بعدها الإحرام بالحج، أو بالإحرام بالقران أي الجمع بين العمرة والحج في نية الإحرام.
وأركان الحج هي الإحرام والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة ثم طواف الإفاضة، والركن قسم من المناسك المفروضة لا يصح إلا بها فإن تركت واحدة منها بطل الحج ولا يجبر ولو عن سهو، والواجب قسم من المناسك المفروضة لكن تركها لا يبطل الحج فتجبر بالهدي وهو عبارة عن ذبح شاة أو معز أو بقرة أو نحر إبل والأفضل أكثرها لحما. هناك مؤسسة بمكة تقوم بهذا العمل بمقابل، وعند العجز صيام عشرة أيام، ثلاثة منها قبل انتهاء الحج وسبعة بعده، أو تجبر بالفدية وهي ذبح شاة أو إطعام ستة مساكين لكل واحد مدّان، أو صيام ثلاثة أيام يمكن للحاج أن يقوم بها في الحج أو في بلده.
والشرط ما لا يتم الشيء إلا به ولا يكون داخلا في حقيقته وهو شرط أداء ما يجب وجوده لصحة الشيء كالطهارة للصلاة وشرط وجوب ما يجب وجوه لوجوب الشيء كالعقل والبلوغ للصلاة والحج، فشروط وجوب الحج هي الإسلام والبلوغ والعقل، وشروط التكليف الحرية والاستطاعة. أما الفرض فهو ما ثبت بدليل قطعي الثبوت والدلالة.
والإباحة هي التخير بين الفعل وتركه. ويسمى الفعل غير المطلوب الذي خيّر بين إتيانه وتركه مباحا. والشعيرة من الحج مناسكه وعلاماته وآثاره وأعماله وأعلامه ومتعبداته. وأول استعداد للحج التوبة الصادقة، وقضاء الديون وزيارة الأهل والإخوان وإعداد لوازم الحج وثياب الإحرام من إزار ورداء ونعلان. ويستحب أن تكون ثياب الإحرام بيضاء جديدة أو نظيفة، فعلى الحاج أن يطلع على دليل الحاج. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة "حجة مبرورة خير من الدنيا وما فيها، وحجة مبرورة ليس لها جزاء إلا الجنة".