السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إنّ الحياة لم تصف لأحد قطّ، إن قلت أن مواطن الحزن فيها أكثر من مواطن الفرح لما أخطأت ، فيها الكثير من المآسي والمصاعب والمتاعب...مهما حاول الإنسان أن يكون مبتهجا ومسرورا إلا جاءه من اللكمات والضربات ما لم يكن يحتسب ....
وأقسى اللحظات أن تشعر أنك وحدك من يحدث له ذلك، خاصة إن كنت وحدك فعلا ، لكن الواقع إن لم يكن بجانبك من يشعر بك ومن يساندك ولو بكلمة واحدة فقد يخفف عنك الكثير والكثير من وطأة الهم والغم والحزن الذي يجثم على صدرك ... أن تكون معتقدا جازما أنك إن كنت وحدك فلست الأسوء ... (!)
وإن أحسست يوما ما بأنك وحدك وأنك الأسوء احمل نفسك وسافر ، وانزل عند ثلاث محطات ،ربما كنت تلمحها من بعيد ولكنها لم تكن تعني لك شيئا ولا تحرك فيك ساكنا ، هي محطات ثلاث تأخذ منها صورة لك كيف كنت في الأمس وكيف ستصبح في الغد من حيث الزمن ولكن من حيث ما عشت وما ستعيشه ربما هو مختلف تماما عما يوجد فيها ....
المحطّة الأولى
محطة البؤس والشقاء من أول يوم ميلاد
بيت الأيتام ... (!) مكان ارتبط اسمه باسم التعب والنقص والحاجة والشقاء: ماض كئيب ،وحاضر محزن، وغد ضرير... (!)
مكان يعني الفقر ... فقر من أقسى أنواع الفقر الذي يمكن أن نعانيه في حياتنا هو فقر المشاعر ، فقر الحب، فقر السعادة، فقر الاطمئنان والاستقرار، وفقر النصيحة والتوجيه والرعاية... (!)
كانوا يقولون: أنت جئت تعلمينا ...؟ وأنا أقول: بل جئت أتعلّم منكم درسا في الحياة أستطيع به المواصلة ليس بقوة لكن حتى أستطيع ...
لو أنّك جرّبت سؤالهم عن الأشياء التي يحبونها ستنتظر إجابات مختلفة أغلبها لعب ودمى وألبسة .. لكنك ستذهل إن كانت إجابة أحدهم هناك:
أحبّ والدي ... (!)
أتوقع أنه سيهجم على قلبك شعورين غريبين :
شعور بالدهشة أن يكون في هذا القلب الصغير شيء من حب لم يعرفه ودفء لم يجده ...
وشعور بالألم أن تكون عرفت والدين ولم تخرج من قلبك كلمة بريئة مثل هذه الكلمة ، وإنما قد تدعي أنهم ظلموك وسلبوك الكثير من الأشياء التي تحبها
شيء غريب جدا... ... (!)
وطفل آخر جالس على كرسي متنقل سيقول لك: أحب ساعة يد ولكن لا يوجد من يهديني إياها وإن وجد فلن أتمكن من لبسها لأن يدي ليست سليمة...
قلت : أنا لي يدين سليميتن ولكني لم أضع الساعة في يدي ..
سبحان الله ... (!) ليس كل من يملك الشيء قد يتحقق له ما يأمله فيه... كن متأكدا أننا نملك الكثير من الأشياء التي حُرم منها الآخرون ، ونُحرم من أشياء يملكها الآخرون فلا يتحقق المراد لا من الأشياء الممنوحة ولا الممنوعة ... لأنها تبقى في الأخير أمورا لا تُعلَم وأقدارا لا تُغْلب ... (!)
فيا نفس انكسري قليلا ولا تجحدي نعما كثيرة لمصائب وهموم حلت وأبت الرحيل ....
وبعد محطة البؤس والشقاء محطة الغبن و العجز
انتقال من ضعف صبي إلى ضعف هرم ، ومن وهن طفولي إلى وهن عجوز مترهل ،ومن حرمان في الطفولة إلى حرمان في الكبر....
تجلس هناك فتسمع أعاجيب زمن مضى وكأنه أساطير ، وتقرأ في العيون كلاما كثيرا وإن كانت الوجوه تتهلّل استبشارا برؤية الزائر والمتصدق والسائح أيضا ( ولا عجب أن يكون هنا سواح يأتون للتفرج على أناس من آثار الماضي )
من أحزن ما يمكن أن تقرأه في تلك العيون :
لقد انتظرت غدا أجمل فلم يأتني ... (!) هو ألمٌَ كبير وجرح غائر في الصدر.
هي محطة ستستشعر فيها عظم ما مُنِحْت وحقارة ما مُنِعْت ، إن كنت تذكر أنك قبل ساعة من الزمن كنت طفلا والآن صرت عجوزا سيزور المحطة الأخيرة وهو يمتطي قطار العمر ....
المحطّة الثالثة
القبور
جرب أن تجلس عند القبور ستبكي كثيرا، وسيصعب عليك تحديد سبب بكائك: هل هي دموع حسرة على ما مضى أم على ما فات أم على حاضرك أم هي دموع حسرة على نفس نهايتها ....تراب... (!)
وهو تراب غير التراب الذي في الخارج ؛ ذاك تراب تدوسه الأقدام المتسارعة والمتلاهثة والمتهالكة أيضا وأجسام قد لبست ثياب الكبر والغرور . أما هذا التراب هو فوق الأبدان والأجسام التي لبست ثياب الذل والانكسار لأنها قد ذاقت الموت بعد الحياة ... (!)
يخيّل إليّ ساعة دخولي بوابة المقبرة أني أدخل عالما غير العالم الذي أتيت منه ... سبحان الله! هدوء وسكون غريب ، ووحشة شديدة ، مع أنك قد تجد وجوها هنا أو هناك بعضها عابس وبعضها مهموم وبعضها باك ، وهناك وجوه من العالم الذي تركته خلفي وجوه متهلّله مستبشرة بقدوم الزائرين تقرأ القرآن للأجر أو تمد يدها : صدقة من أجل الوالدين ... لكن لا بأس يبقى المكان مكانا قد مسحت يد الموت عليه مسحتها وإن كان موتا من نوع آخر يسمى موت المشاعر والحياء ... (!) ربما وُجدت هذه الوجوه هناك لتذكرك أنك لم تمت بعد فأنت تمشي فوق التراب ... (!)
هناك عصافير تغني هي الأخرى مختلفة عن عصافير التي تركتها خلفي ؛ ليست عصافير تؤنس المشتاقين ، وتطرب العاشقين ،وتبهر المتفكرين ،وتبهج المحزونين ... هي عصافير تنشد شعر ( الموت ) صوتها حزين جدا ....
و هناك أشجار هي غير أشجار الحدائق والشوارع ؛ هي أشجار عابسة لا يشتاقها أحد ، ولا يحن لظلالها مسافر أضناه السفر، ولا متعب أخذ التعب منه مأخذه ، هي أشجار ليست إلا للقلوب الذابلة التي تشبه ( قلوب الموتى ) لذلك يطيب لي أن أسميها أحباب الموتى وجيرانهم ...
وهناك زهور فوق بعض القبور وهي الأخرى زهور مختلفة ؛ زهور تقتات من عظام الدفنى ، هي قبيحة الروح وإن كانت جميلة الجسد فلا تسر أحدا إن أهديت إليه أبدا ...
وهناك رائحة غريبة في المكان لعلها رائحة الموت لكنها ليست كريهة بل هي رائحة السكون والهدوء ربما هي : رائحة الراحة الأبدية ... (!) راحة من كل محبوب أو مبغوض ،فلا سعد دائم ولا بؤس دائم ....
ثم أعود متجهة إلى بوابة العالم الآخر وأودع النيام والمستيقظين ؛ فلاشك أن من تحت الأرض إمّا نيام يهنؤون أومستيقظون يتعذبون ، والتراب يغطيهم جميعا كما أن التراب في عالمنا هذا يمشي عليه الجميع البائس والسعيد ....
هذه هي نهاية الحياة ... (!) فلتهدئي يا نفس..... (!)