لو أن رجل أصابه الفقر والاحتياج , ولم يرى في أفق ليله للفجر انبلاج , ثم جلس بعيداً عن الدائنين والهم والإحراج , ثم وقع في حجره طائر مربوط به كيس يحوي الجواهر والذهب والعاج , يبشر بغنى بعد فقر وانشراح وانفراج , فنزع الكيس وطرز حياته بالسرور والابتهاج , فسدد الديون وقال لأصحابها نأسف على التأخير و الإزعاج , واستثمر ما تبقى في المزارع والدور والمتاجر والأبراج , فنمت تجارته وصارت تأتيه الأموال متلاحقة كالأمواج , وتصطف الناس على بابه أفواجاً أفواج .
ماذا تقولون عن هذا الرجل ؟ الذي لم يكتفي بأخذ كيس الأموال , وصرفها حتى تنفد, بل استثمرها ونماها , فكيس مثل هذه لا يقع في حجره مرة أخرى ولو عاش ألف سنة , بل أتته الفرصة مرة واحدة , فأقتنصها , وأمن جانب الفقر والعوز , وأصبح مرتاح ووجه وضاح .
أليس هذا الرجل بذكي ؟
نعم أنه ذكي , وكثير من الناس أذكياء مثله ! وسأشرح ذلك :
أنه لمن الذكاء …. ألا تكتفي بقيراط واحد حين تصلي على الجنازة بل تطمع في القيراط الثاني حين تتبعها مع المشيعين وتحضر دفنها قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم(( من شهد الجنازة حتى يصلي فله قيراط، ومن شهد حتى تدفن كان له قيراطان)) وقد أدرك ذلك الفارق عمر رضي الله عنه وقال (( لقط فرطنا في قراريط كثيرة )) . فالذكي لا يقنعه قيراط واحد بل يلحقه بقيراط آخر .
أنه لمن الذكاء …. ألا تكتفي بالبر تجاه والديك فقط بل تبحث عن أبر البر , قال الرسول صلى الله عليه وسلم (( إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولى)) فمن برك بوالدك بعد موته أن تتبع أخبار أصدقائه وخلانه تصلهم وتحسن إليهم وتقضى حوائجهم إكراماً لأبيك وهذا من أبر البر.
أنه لمن الذكاء … ألا تكتفي بابتسامة في وجه أخيك فقط بل تؤدي حقوقه كاملة وهي خمس كما ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم( حق المسلم على المسلم خمس رد السلام و عيادة المريض و إتباع الجنائز و إجابة الدعوة و تشميت العاطس) فإذا سلم ترد السلام وإذا مرض تعوده وإذا مات تتبع جنازته وإذا دعاك تجبه وإذا عطس تشمته , وكل حق تؤديه تجاهه تزداد به أجر ورفعة فإن كان هنالك حسنة بالابتسامة فهنالك حسنات كثيرة وكبيرة بتأدية حق المسلم .
أنه لمن الذكاء … ألا تكتفي بصيام الدهر كله (( صيام رمضان وست من شوال )) بل أن تصوم عشرة ذي الحجة والتي يكون فيها العمل الصالح أحب إلى الله حتى من الجهاد , وأن تصوم الاثنين والخميس ففيهما ترفع الأعمال في الكشوفات إلى الله فهينا لك حين ترفع أعمالك وأنت صائم , وأن تصوم الأيام البيض إتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم , وأن تصوم عاشوراء , ففيها يكفر الله أعمال سنة كاملة من الكبائر . (( يالله ما هذا الكرم ؟ أين الأذكياء الذي لا يكتفون بالقليل ولا يفرطون في عمل يقربهم إلى الله )) .
أنه لمن الذكاء … أن تجعل للقرآن ورداً يومياً , تتلوه تحفظه , تنعم ببركاته وتعمل بآياته وتقف مذهولاً خاشعاً أمام إعجازه في معناه وعباراته حتى تكون مع السفرة البررة الكرام , ويكون لك شافعاً عند الله وحجة لك .
أنه لمن الذكاء … أن تشرح صدرك وتعطر فمك بذكر الله , وتجعل ذكره يتردد ويتجدد ولا يتبدد من لسانك , فتذكره قائماً وقاعداً , نائماً , مقيماً ,مسافراً ,فرحاً ومهموماً حتى تنطبع نفسك على ذلك ويكون آخر كلامك من الدنيا ذكره وتبجيله وتحميده وتسبيحه . ” لأن هذا ماعودت نفسك عليه “
الفطن من يستغل تلك المكرمات ويضاعف رصيده من الحسنات حتى يرقى في أعالي الدرجات في جنان عرضها الأرض والسموات , فإن كان الرجل الذي أستغل المال ونماه واستثمره حتى أمن جانب الفقر ذكياً , فكن أفضل منه في الذكاء وأستغل ما يسره الله لك من طرق الخير حتى تسعد سعادة الدارين فالإنسان يعيش حياة واحدة فقط إن استغلها سعد , وإن أغفلها بحسرته قع